وكان خريف غزة قاسٍ

حين يتقمص شبح الدمار صورة الماضي, ويترنح على منحنيات
ذاكرتي,أتذكرُ نار الجحيم التي لسعتنا كلسعة أفعى ,وجعلتنا
نرتشف سُمَّ سقيم الحرب في غزة ,لذلك لا نستطيع أن نشفى من
جراح ذاكرتنا .


تأسرني غزة حين تلامس قدماي أرضها لأرى كم كان



الخريف قاسياً حين حصد أوراق أشجارها الخضراء العام الماضي, وما زال ينتظر سقوط المزيد منها ليأخذها معه عندما يذهب ,فتخونني عيناي ويتساقط سُهد عينيّ كالمطر وسط عاصفة برق من الألم ,فأُقَبِلُ نسمات الهواء القادم من بحرها عند ملامسته شفتاي ,وأعتلي الموج وأصل إلى عنان سمائها وأحضن لآلئها برفق بين عظام صدري ,فيرقُ قلبي إلى ترابها فأعود لكي أمزج أنفاسي بعطر ريح ليلها ليحاكي الأشجار الصامتة ,التي ارتوت جذورها بدماء أشبالها ,فتعتنقني ثكنات الحزن وتكبلني بسلاسل الألم ,ثم تغادرني نقاط حروفي ويصرخ قلمي صرخة تهز أعماق الجبال فينتفض ويثور ثورة البركان ويتدفق بشراسة على صفحاتي الناصعة البياض ,ليغدقها بشظاياه البلورية المتوهجة الحارقة التي تعيد البصر لمن فقده ,ثم أعود للوحتي الفنية مرة أخرى وأحاول أن أرسم بريشتي المفترسة سماء غزة بألوان السعادة ,ولكني أتفاجأ حين أجد البوح لقلمي ينثر أعمق مشاعر الألم, ويبعثرها كي تكون قاتلة ,أرتشف قهوتي المرة التي تشبه مرارة واقعنا فأجد نفسي معلقة على جسر بين دموع قلمي وأنين الماضي ,فتتساقط طيور حروفي المصابة بالجراح, لتستقر هنا وتنسج كلمات مميتة وكأنها عنكبوت أسود يفتك فريسته حين يقترب منها فتمتلئ بالحزن الدفين ,لا أتوقع أن ما عشناه العام الماضي سوف يتبخر كما تتبخر المياه في الصيف من شدة حرارة شمسها ولكنه سيبقى راسخا كالجبال ومعلقا بالذاكرة كحدائق بابل ,عندما رأيت زقاق مدن غزة مغلقة وقفت وقفة صامتة اهتزت لها الأرض وزلزلتني وفجرت داخلي حبي لها,تُرى هل كان لكلٍ منا طريق مختلف ؟ أم أن ما جمعنا روح واحدة وقلب واحد في حب الوطن ؟

فأغفو لأفيق على نفسي داخل حفرة مظلمة تشبه القبور الممتلئة بأرواحنا.
كم هي حالكة السواد ,فأعجز عن الخروج منها فكلما ابتعدت عنها تشدني إليها بالحنين الذي يغمرني لغزة ,كلما أشاهد عرسا لشهيد تتسع حدقة عينيّ وتستعد لضمه داخلها ,فأنا أعلم جيدا حجم معاناتنا فما زلنا نعيش في صقيع الخراب وما زالت الغربان السوداء تشتاق لإحياء موسم الحصاد فتلتف حول المكان لتعيد فتح أنهار العيون مرة أخرى .
ولكن الجميل حين تعانق أرض غزة الصقور المغطاة باللون الأبيض ليضيئوا ظلمة القبر بالنور ,فتخرج ينابيع الفرح من أعماقها لتضمه بين كفيها وتضعه بين أحشائها وتغلق عليه .
أشتاق إلى دفء ترابكِ يا غزة ليداعب أوتار قلبي ,فامنحيني حنان الأم حين تشتاقِ إليّ.





ريشة غيوم الشوق